Thursday, June 12, 2014

اللعب في عداد العشرين قدم إلا قدم!

يلدغ عقرب الساعه الكبير الزمن في مكانٍ ما .. إنها الثامنة،ينفضّ غشاء الكابوس اللعين ؛يتأوه منظفاً عامِصُّه .. يقف شاب ثلاثيني شاحب لونه، عظام وجهه مدببه تكاد تخرق الجلد ..،مقفهر البنية بجُل مكوناتها إلا الشارب المنتصب  الذي يحاوطه نبته من شعر الذقن الوليد،محني الأكتاف العابئة للهموم ،ينفِخ في سيجارة محلية الصنع تلين ريقه الناشف تبغها نشارة الخشب دخانها أغمق من عادم السيارات في بلكونة تطل علي إحدي عشوائيات القاهرة الكبري.


كعادته، يقوم بالمهمة اليوماتي المتكررة التي يوديها دون عناء في التخطيط ، فيتسحب علي أطراف أنامله حتي لا يوقظ أمه العليلة ،حتي يصل إلي عتبة الباب فيلتقط جورنال عم عوّاد ولكن للمرة الأولي،يُخيل بورقة بين أحضانالصفحات مفادها التوبيخ لعدم سداده حقّ الجرائد،
تحزن معالمه وتوخذ بنات خيالاته إلي خيم إغتصاب أقساط التسجيل و الدش وثلاجة العشرين قدم إلا قدم، و انتهاكات وصولات الكهرباء و الماء..وتحرش ايجار البيت،لا يفصله عن تلك الخيالات المرعبة إلا إيابه للبلكونة مرة أخري بنفس طريقة الذهاب.

تبدأ سيجارته في مغازلة آذان الجريده المحمّله بالأخبار الغائط كالقبض العشوائي وسلخانات التعذيب بمباركة أجهزة وقطاعات القتل في الدولة..وغيرها قماءةً كحوادث الاغتصاب و التحرش الذي لم يكد يكمل قرائتها حتي أصبح شاهد عيان علي إحداها،فطل من بلكونته مشهد تحرش طازج خال من القيل و القال،أُسدل ستاره علي إختلاف وجهات النظر في الضحية ما بين متفرج شغف وآخر آمل في نهايته أو مطرمخ علي الحقوق بحجة " لقد أدرك خطيئته، لا داعي لتضخيم الموضوع "
أومتسائل سَمِج "ما الداعي لنزولك في هذا التوقيت الباكر؟"  أو ناصح ضال الفكر.
.
 

يمشي متردد الخطي إلي الفرن كل ما يشغل تفكيره هو مستقبل الخمس دقائق القادمه ومصير العيش ، هل ينتظره؟.. سرعان ما أدرك أنّه في طابورعن آخره قد يمتد إلي ساعتين أو يزيد.. وفجأه تحل غضبة السماء بنبأ "(شطبنا..معدش عيش))" 
وفي الثواني المودية لوعي ما بعد الصدمة..يسمع الفرج "معي باتنين جنيه عيش..خذ لك بجنيه يابني".

عاد مجبورالخاطر،راض البال، فاتحاً لمعدته مائده لذيذة، قوامها الفول و البصل الأخضر، و ما إن أخذ في غليّه حتي ظهر له شبح أمه فيأتي بالأخضر و اليابس " ماذا تصنع يا علي؟"
بعد عدة معتركات كتبرير لحوسة المطبخ ، وانسداد نَفَسه من ثقل الفول وصراع حشرجة لسانه أمام أمه صاحبة العيا التي تزوجت دون رضا ودون سخط أيضاً فقد كانت قاصرة وقت حلفان أبيها بالطلاق أنه سيزّفها علي ابن خالتها أبو علي الذي كان يعمل في شركة الكهرباء وعاش في حاله يحفر لنفسه بداخل الحيط، حتي خرج معاشاً مبكراً بعد حركة خصخصة شركات القطاع العام وبيعها للمستثمرين الأجانب.

يلبس عليٌ بنطاله الأسود ذي التخييطة من الحوض،
فيتميز بالصفار المتشحم  مُذ حكّ والده -دون قصد- لأحد ماكينات المصنع الذي كان يفتش علي عداده في إحدي الدوريات التابعة للشركة في ميت الضافر.. في خلفية المشهد يظهر قميص والده الرمادي الشاهد علي عدد شعر رأس ممتحنيه في مقابلات العمل حاضناً ورقه مكتوبٌ فيها " كويتلك القميص،عشان ماتتأخرش، موفق بإذن الله" يُذكر أنها الأولي منذ تقلده منصب خريج مدرجات كلية الإقتصاد و العلوم السياسية منخرباً علي الشغل من عين الوَحش .

يركب الأوتوبيس ودون عناء في الانتظار في سحاب نفخ الموظفين خوفاً من تعطلهم عن الديوان ، ولكنّ لسوء حظه كان الأوتوبيس يعزي حاله علبة السردين ..فعن يمينه حرامي يخرق موخرة واقف لقنص محفظته ، وعن يساره رجل لحيته كبنت البنوت التي لم يمسها موس الحلاقة يحاول التحرش بفتاة ..يظل متأملاً طوال الرحلة ابتسامة طفل يجلس بجواره، ودعاء سيدة نخر عظمها السن لشاب أجلسها مكانه، حتي أدرك نفسه في محطة رمسيس .فينزل


الجو يلهب الأجساد والازدحام يلسع النفوس، والرطوبة تحرق الوجوه ، الناس تكاد تتعري ، الحاكم هنا هو بائع العرقسوس.. يضطر علي إلي اللجوء إليه ليبل عصا ريقه، وبعد أن انتشرت الراحه وهدأ روع حرارته، تظهر إبتسامة رجل العرقسوس "خليها علينا..ماجراش حاجه" بعد ان تكبدت قدماه من ايجاد نقود حديديه فكل ما تحويه محفظته عشرون جنيهاً وأقصي أمانيه ألا يضيعوا هباءً في سبيل إشباع جوع الروتين الحكومي.


يحاول عليٌ الاسراع من خطواته التي أصبحت عادة كحال معظم القاهريين في أي مكان،، فيقطع تذكرة وسط اختلاط عرق الجماهير في الطابورفيبدأ في التأمل في المشاهد التي يراها يومياً، ما بين خناقات بين اثنين ولكن لا يعرف ما السبب؟فالبعض يُحجز ليطفيء نار العراك والبعض يتفرج كنوع من التعويض عن الذهاب للسينما التي ارتفعت تذاكرها حتي وصلت إلي ثمن نصف كيلو من اللحم!
قبل أن يهيأ نفسه إلي الدخول إلي العربة، يشاهد فتاة تجلس علي مصطبة الانتظار مع طفل ينفجر فرحاً بمصاصته، يبدو عليها أنها لا تقرب إلي رَحِمِه، فيلعبان و تشرح له دروسه بالتبادل.

قبل أن يدخل من بوابة المصلحة الحكومية، يهز قلبه جملة كهل لشاب ساعده في عبور الطريق " ربنا ياخدك يابني من زماننا الوسخ ده!"  فيسأل نفسه  ماذا جري ؟حتي يدرك نفسه في طابور عريض من الملفات التي تعاشر إبط المقدمين للوظيفهوبعد عدة ساعات لم يقدرأن يحصيها،يقدم ملفه للموظف كئيب الركن بارد الملامح.روبوت آلي يعمل بالإشارة، يبدو أنه بلا لسان !

يجلس بجوار اثنين يتناجيان:"فكرك ممكن نتقبل؟ - إممم، علمي علمك، النتيجة معروفه في ناس كتير قرايب رئيس القطاع وبطانته.. ربنا يخرجنا من البلد الوسخة دي علي خير !"

يخترق المشهد حنجرة ضابط أمن الدولة، الذي يوشر علي صفة القبول
مصطفي أحمد الملواني..أفندم.. ويرمي الملف بكل قوة عضلات عضده كالقرص الطائر في ركن الغرفة
وبعد توالي النداء علي الأسماء ،وتوالي رمي كرامة أصحابها ،وانتهاك آدمية أوراق ملفاتهم، يعترض أحدهم :
لو سمحت يا سيادة الرائد.. ممكن حضرتك تنده علي اسمي وآجي أخده من حضرتك-"
- وانت علي راس أمك ريشة ؟
- يرد مرتعداً منقسماً ما بين زئير كرامته المراقة، وبين خوفه من كهرباء لاظوغلي: لا ،بس- صف الأسنان الفوقاني ينخر طرقاً في التحتاني من الخوف- ،بس أنا بقول لو سمحت "
-طيب خد الملف يا .. ويذكره بمناسل أمه ، يلا يابن الوسخة من هنا ، ويقطع ملفه ارباً اربا
ينقضّ علي كعصام الحضري لصد كرة ضابط لاظوغلي..ويخرج من المصلحة حامداً ربه أن كرامته لم تهتك بشكل كامل.



يوشك قرص الشمس علي النوم في حضن الليل،في ظل عدم تركيز من الشاب الثلاثيني ،ولكن في أم تركيز قدميه التي اتخذت من ذاتها قبطاناً يوجه المركب بتغيير عدد العقد، فيشف الإياب بنفس طريقظ الذهاب، فهي "فلاش باك" لنفس الفيلم البائس! حتي يحس بجزء من الوعي وهو يفتح الباب ويرجو الطعام أثناء غسله تراب جبهته

تتأسف الأم لخلو المنزل من الاكل كما أنها متعبه ، وتخبره بنسيانها تذكيره بأن معاش والده قد نفذ من يومين
كظم غيظ جوعه، و إن نزل عليُ السلم مكسر البلاط حتي وجد عم عبده في السرداب و هو يعرض عليه مشاركته في أكل المشلتت المحشوبالسمنه البلدي و الجبنه الحادقه و العسل
-بعد تفكير برهة، وادراك قيمة استغلال الفرصة بطريقة صحيحة:همم،عشان خاطرك بس."
- يخليك لينا..ونشوفك في الخارجية وتبقي ضهر لينا كده.. حابعت شوية للحاجة فوق"

يقف عليٌ علي كورنيش النيل،لأنها الشيء الوحيد الذي لا يتطلب فيزيتا أو تذكرة أو مال يُدفع! لا يعلم أحد فقد تفعلها حكومتنا الرشيدة ،فتحسب عدد الأنفاس بعداد، ومن يلعب فيه يحاكم بتهمة اللعب في العداد!

تجري برأسه أفكار سلبيه تسابق الأخري..


استمر في التفكير حتي فهم أن الاسود يسير معه الابيض بالتوازي، فكل السودويات التي تأكل ملامح دماغه، يرافقها أشياء جميلة ولكن لا يراها.
خَلِصَ علي من يومه بأن السعادة ليست في عدم وجود المشاكل ،
 ولكن في إدراك واستيعاب كيفية التعامل معهافالمشكله تصبح ًمشكلة إذا رأيناها كذلك، كما أن الحياه أقصر بكثير من أي مشاكل أو منغصات أو مضايقة .. عشها ببساطة ! :)
 وفجأة وقبل ان ينتهي من التفكير.. يسمع صوت زوجته:
حبيبي ..حبيبي إنت سرحان في إيه؟ ..إيه اللي واخد عقلك؟-
- لا ولا حاجه! .ماتشغليش بالك.